
مقدمة لقصيدة حب دائم لمدينة اسمها الفلوجة….د. مثنى عبدالله
كل تاريخها كان مسجد وكرم وكرامة. كان سلوك أهلها مزيج من كل هذه القيم، فمآذن مساجدها التي عددها بالمئات والمشرئبة نحو السماء، كانت كالنسغ الصاعد والنازل في الاشجار، تكسب من السماء قيمها وتضخها في عقول وقلوب أبنائها مروءة وشهامة.
كان موقعها على الطريق الدولي الرابط بين العراق ودول الجوار العربي، قد ركز في عقول أبنائها جيلا بعد جيل حقيقة عدم إمكانية الهروب من الجغرافية، كما يقول المفكر الإنكليزي كولن أس غري، فجعلوا من بيوتهم مضايف مفتوحة لكل المارين عبرها إلى الأردن وسوريا والسعودية. لا يدخلها أحد ولا يتوقف عابر سبيل في طرقاتها الا ويسأله أهلها ذاك السؤال المحبب، من أي عمام أنت يابن العم؟ وحالما يسمعون جوابه يصبح ليس في حاجة لدفع المال لقاء طعامه وشرابه في أسواقها فهو ضيفهم.
لم يسألوا أحدا يوما عن طائفته أو مذهبه أو قوميته لأنهم كرماء، والكريم تعاف نفسه الصغائر وتوافه الأشياء. كانوا ينظرون إلى أنفسهم على أنهم جزء من القبيلة العراقية الكبرى، وأن كل ما يفعلونه لكل القادمين والمغادرين عبرها ما هو إلا واجب، يتحول إلى رسائل منهم إلى كل أهلهم في العراق من أقصاه إلى أقصاه، فيصبحون موجودين في كل الضمائر والقلوب، حين يتمدد كرمهم كضوء النهار على جميع مدن العراق، وبذلك يساعدون في صنع واستمرارية وديمومة التناسق الاجتماعي الفريد، فأعطاهم هذا الشعور قوة وثقة بأنفسهم، فسقطت القيمة المادية للاشياء والمال في نظرهم وباتوا ينظرون اليها بترفع، لأنهم على ثقة بأنهم جزء من كل، وإن مر عليهم يوم أسود فإن الأقدار لن تطحنهم، لأن لهم أهلا وأشقاء في خيمة العراق. كانوا يجدون أنفسهم في هذا المدى الواسع من الاتصال مع الآخرين، لكنهم كانوا يحافظون على تشكلهم بعيدا عن تشكل الآخرين، ويصنعون مكانهم ويتركون بصماتهم فيه، كي يحافظوا على خصال الكرم والمروءة والشجاعة، التي كانوا يخافون عليها أن تذوب وتختفي في أجيالهم، لأنهم يعرفون أن الأماكن عقل وسلوك وليس أرضا وحسب، لذا وعلى الرغم من تماسهم مع مدن التحضر بقوا حريصين على صفاتهم، لذا لم يمر يوم جاع فيه العراق إلا وكان لأهل هذه المدينة موائد ممدودة في كل مدنه، وما مر يوم قهر فيه العراق الا وانفجر غضب أهلها دماء تدفع الظلم عن كل العراقيين، حتى باتت بطولاتهم في ثورة العشرين والحرب العراقية الإيرانية وحروب فلسطين، شواهد على كرم أهلها حتى بالدم.
كرمهم وكرامتهم ومروءتهم ومساجدهم كانت كلها سلعتهم الإستراتيجية، التي جعلت من جغرافية الفلوجة في حالة تهديد دائم من قبل الغزاة والمستعمرين وأعوانهم المتسلطين، فكانت مقاومتهم أبد الدهر هي الدليل والعنوان الملموس على وجودهم . كانوا ينظرون إلى مقاومة مدينتهم الصغيرة كواجب عليهم، وقنديل زيت، علهم يشعلون به روح المقاومة في كل مدن العراق، وكانوا يعتقدون أنها الحل الوحيد لتجبير عظام خريطة الوطن، إن كسر فيه ضلع مدينة أو قرية أو حي، فنحتوا الصمود في النفوس كي يفتحوا نوافذ الحق المبين في وجه الظالمين. البعض يفضل الانتظار ورؤية ما ستؤول إليه الأحداث، وآخرون يفسرون «ولا تلقوا بأنفكسم إلى التهلكة»، لتثبيط العزائم ونثر الغبار في طريق المقاومة، إلا أهل الفلوجة كان لديهم الحق بيّن والظلم بيّن من أول تباشيره، فكانوا يتقدمون الصفوف كي يوفروا العزيمة للاخرين والهزيمة للمتخاذلين. هم يعرفون جيدا أن الوقــــائع لا تنسى وتظل في الذاكرة، قد تركد في قعر الحركة الروتينية اليومية للحياة، لكنها لن تذبل أبدا ولن تموت ولن تحرف أو تشوه، لانهم يعلمون جيدا أن الحياة ليست شيئا يمضي مثل نهر، كما يقول هيراقليطس، وصراع النور والظلمة، والحق والباطل، والشرف والخيانة، والمروءة والتخاذل، والوفاء والجحود، تولد منه أوطان جديدة وأناس أكثر نبلا، ونفوس أعظم قدرا وجنابا. في كل مواجهاتهم مع الغزاة وأعوانهم كان أهل الفلوجة ينظرون إلى العراق ليس خريطة جغرافية وحســـب، أنه بالنسبة لهم بوتقــــة أنصهرت فيها العــــروبة والإسلام، وروحانيات السماء وقيم الأرض، لذا يجب أن يبقى عصيا على الغرباء وأن لا تدنس أرضه، لأن مزيج كل هذه العناصر لابد أن يمنح أهله طاقة استثنائية على المقاومة . فهل كان صدفة أن يصطدم الإنكليز بأهل الفلوجة في عشرينينات القرن المنصرم؟ وهل كانت عنجهية وحسب اصطدام الامريكان بأهل الفلوجة مرتين وهذه هي الثالثة؟
يقينا لم تكن صدفة كل تلك الاحداث، بل هو قدر الجغرافية والديموغرافية في آن في الفلوجة. إستعيدوا كل ما قاله القادة العسكريون البريطانيون والامريكان بحق هذه المدينة وأهلها، ستجدونه عواء ذئب جريح اختار لحظة ملعونة للتربص بأهلها، فتربصوا به وأدموه بعد أن استجمعوا كل جغرافية وشعب العراق. قلبوا ذاكرتكم ستجدون تصريحات مازالت طرية تشتم أهل هذه المدينة، وتصفهم بأبشع الأوصاف وأشنعها، أطلقها أعوان أولئك البريطانيين والامريكان، إيرانيو الرأي والهوى من المتسلطين على العراق وأهله هذه الايام.
إذن فالقاسم المشترك الاعظم بين هؤلاء وأولئك هو الحقد الذي يمور في نفوسهم ضد المدينة وأهلها، لانها كانت المرجل الذي يغذي المقاومة. وإذا كانت الفلوجة قد جسدت تجسيدا حقيقيا كل العراق، فقد بات على جميع العراقيين اليوم أن يفردوا لها مكانا مقدسا في ضمائرهم وقلوبهم وعقولهم، وأن يستقبلوا أهلها المهجرين والمعذبين بمثل ما كان أهل الفلوجة يستقبلون كل العراقيين.
فقد أعلنت المنظمة الدولية للهجرة أن عدد النازحين منها، وصل إلى أكثر من 43 ألف نازح خلال ثلاثة أسابيع فقط. كما أعلنت الامم المتحدة عن حصول انتهاكات من تعذيب وتغييب قسري وقتل، وقد أيدت ذلك منظمة هيومن رايتس ووتش أيضا. وإذا كان البعض قد انعكس لديه الوعي بفعل التثقيف الطائفي والأبواق المأجورة، التي صــــورت المديــنة وأهلها بابشع الصور، وحاولت أن تضع في رقاب أهلها الكثير من الدماء التي سالت في بغداد وغيرها، مما جعلهم يتشفّون بما حصل فيها وبما آل إليه حال سكانها، فإن الكثير من الشرفاء لازالوا يحفظون لاهلها كريم صنعهم، ولا يمكن أن تذوي تفاصيل كرم وسخاء أهل الفلوجة في ضمائرهم.
الرحيل عن الفــــلوجة عنيف في قساوته، والمعروف عن أهلها انهم لا يستطيعون العيش في غيرها، لكن الأقسى من ذلك كله هو هذا الإهدار المتعمد لكرامة أهلها.
يقين نت + وكالات
ب ر