
هيئة علماء المسلمين: استمرار الإفلات من العقاب نهج سياسي في العراق
أكد قسم حقوق الإنسان في هيئة علماء المسلمين في العراق عدم وجود جدية في تحميل المسؤولين عن الجرائم والفساد مسؤولية ما اقترفوه، وذلك مع اقتراب النظام السياسي الحالي من إكمال عقده الثاني.
وأشار قسم حقوق الإنسان في الهيئة في تقرير إلى أن العراق أصبح ما بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003، ساحة معركة على النفوذ بين أطراف خارجية عدة ولاسيما واشنطن وطهران اللتين تدعمان الميليشيات والأحزاب السياسية غير الوطنية، مبينة أت البلد المحتل ما يزال يعاني من الفوضى والاضطرابات من جراء ذلك.
وفيما يلي نص التقرير الصادر عن قسم حقوق الإنسان في هيئة علماء المسلمين والذي حمل عنوان “استمرار الإفلات من العقاب نهج سياسي في العراق”.
“على الرغم من الوعود الكثيرة التي قطعتها حكومات الاحتلال المتعاقبة في بغداد على نفسها، بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات والجرائم وملفات الفساد إلا أنها لم تحقق أي تقدم في هذا المجال ولاسيما فيما يتعلق بالقصاص من قتلة المتظاهرين السلميين والنشطاء المدنيين والصحفيين المستقلين والمدافعين عن حقوق الإنسان ومنتقدي الأحزاب السياسية المتنفذة وميليشيا الحشد الموالية لإيران.
وتتضمن الانتهاكات الاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري والقتل خارج نطاق القضاء على نطاق واسع في البلاد، إلى جانب التهديدات والاعتداءات وعمليات النفي. فبعد تجدد التظاهرات الشعبية في تشرين الأول/أكتوبر 2019، قتلت الميليشيات وقوات الأمن المختلفة، بما في ذلك ميليشيا الحشد الخاضعة لرئيس الوزراء، ما لا يقل عن 800 متظاهر في بغداد ومدن جنوب العراق. وعندما تولى مصطفى الكاظمي منصبه في آيار/مايو 2020، شكل لجنة للتحقيق في مقتل المتظاهرين لكنها لم تعلن بعد عن أي نتائج حاسمة حتى تأريخ هذا التقرير.
وفي شباط/فبراير 2021، أعلنت الحكومة عن اعتقال أعضاء “فرقة الموت” التي يُزعم أنها مسؤولة عن قتل ثلاثة نشطاء على الأقل في مدينة البصرة. وأعلنت سلطات بغداد في تموز/يوليو 2021 أنها ألقت القبض على ثلاثة ضباط أمن على صلة بانتهاكات ضد المتظاهرين، ورجل يُزعم أنه مسؤول عن مقتل المحلل السياسي هشام الهاشم عام 2020. وحُكم على ضابط الشرطة الوحيد الذي حوكم بالإعدام في تشرين الثاني/نوفمبر لعضويته في “فرقة الموت”.
قضية قاسم مصلح؛ الميليشيات فوق القانون
وفي 26 آيار/مايو 2021، اعتقلت قوات الأمن المدعو قاسم مصلح، قائد ميليشيا الحشد في محافظة الأنبار، استناداً إلى قانون مكافحة الإرهاب في البلاد. ووفقًا للمصادر، فإن اعتقاله مرتبط بشكل مباشر بتورطه المزعوم في اغتيال ناشطي المجتمع المدني (فهيم الطائي) في كانون الأول/ديسمبر 2019 و (إيهاب الوزني) في 9 آيار/مايو 2021، وشنت ميليشيات الحشد بعد إصدار مذكرة توقيف مصلح ما وصف بتمرد محدود في المنطقة الخضراء ببغداد (حيث توجد مؤسسات حكومية وسفارات أجنبية). واعتبر استعراض الحشد تأكيدًا على أن قوة السلاح أعلى من القانون في العراق.
وإمعانًا في الاستهتار بالدم العراقي؛ قام هادي العامري، قائد ميليشيا بدر، وقيس الخزعلي، قائد ميليشيا العصائب – أبرز المليشيات الفتاكة والطائفية الموالية لإيران – بالتعبير عن دعمهم لمصلح وتمجيد “إنجازاته الوطنية”، بحسب العامري والخزعلي. كما اتهموا حكومة الكاظمي باحتجازه بشكل غير دستوري، على الرغم من أن ميليشيا الحشد تخضع عمليًا لقيادة رئيس الوزراء – وهي حقيقة تمنح تصرفات الأخير الدستورية التي يحتاجونها. علاوة على ذلك، لو لم تكن أدلة الحكومة ضد مصلح صارمة، لما أصدر القاضي الذي يرأس الجلسة مذكرة توقيفه.
ربما كان الأهم من استعراض القوة الذي نظمته ميليشيا الحشد في المنطقة الخضراء. لم يمثل هذا تحديًا مباشرًا للقانون والنظام وسلطة رئيس الوزراء فحسب، بل يمثل أيضًا تهديدًا مباشرًا يمكن للميليشيات حشده في أي وقت للمضي في طريقها في بلد يُفترض أن تحكمه مبادئ دستورية.
بالإضافة إلى ذلك، إذا يُعاقب مصلح في قتل النشطاء – وكثير منهم ينحدرون من المحافظات الجنوبية مثل البصرة وذي قار والناصرية والنجف وكربلاء – فسيكون الأمر متاحًا لجميع النشطاء الذين يجرؤون على الاحتجاج ضد تفشي الفساد والولاء لإيران. بهذا المعنى، أصبح اعتقال مصلح نقطة محورية في النضال من أجل الديمقراطية في العراق والاستقلال في السياسة الخارجية للبلاد.
الميليشيات تقتل علنًا لأنها بمنأى عن العقاب
في بغداد ومدن جنوب العراق، يحد المد المتصاعد من الهجمات على النشطاء والصحفيين ما تبقى من حركة احتجاجية طالبت بالإطاحة بالنظام السياسي المفروض من قبل الولايات المتحدة والجماعات المسلحة المرتبطة بإيران التي تدعمها. ووقعت عمليات القتل علنا وتم التقاطها في الكاميرات ومن السهل التعرف على المسلحين وشاهد ذلك الملايين، ولكن حتى الآن لم تتم مقاضاة أحد، وتبدأ الانتهاكات والجرائم بخق المدنيين من جديد.
تم قمع المظاهرات بقوة مفرطة ومميتة، وفي كثير من الأحيان من قبل الميليشيات التي يندد بها المتظاهرون. ويقول مراقبو حقوق الإنسان إن الاغتيالات تؤكد مدى وصول يد الميليشيات في العراق إلى معاقبة المواطنين الذين يجرؤون على انتقادها والسيطرة على نظام سياسي يهدف إلى محاسبتها.
فرق الموت هي السلطة الفعلية في العراق
مع تجدد التظاهرات في العراق، بدا أن أبناء المحافظات الجنوبية قد كسروا حاجز الخوف من انتقاد أحزاب السلطة الفاسدة والميليشيات المرتبطة بطهران. واستخدم المتظاهرون الصنادل لضرب صور قادة تلك الأحزاب والميليشيات، وعبارات تندد بالقتلة. وشهد تجدد التظاهرات شجب جيل نشأ في ظل الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003 النظام السياسي الفاسد الذي أقامته، وكذلك نفوذ إيران. ولكن ذلك لم يدم طويلًا؛ حيث نفذت تلك الأحزاب والميليشيات الكثير من عمليات الاغتيال ضد متظاهرين ونشطاء وصحفيين ومدافعين عن حقوق الإنسان. وقتل أكثر من عشرة منهم بعد تعيين الكاظمي، الذي وصل إلى السلطة متعهدا بالعدالة للقتلى من النشطاء. وبعد اغتيال الناشط إيهاب الوزني في كربلاء؛ قال أحد زملائه لمندوب قسم حقوق الإنسان وفضل عدم ذكر اسمه خوفًا من بطش الميليشيات: إن جريمة قتل إيهاب رسالة لنا جميعًا. مفادها بغض النظر عما نفعل، سيبقى الوضع على حاله دائمًا. ستكون فرق الموت هذه في السلطة دائمًا.
في السياق ذاته، تؤكد حكومة الكاظمي مضيها في سياسة الإفلات المطلق من العقاب، وذلك من حلال تبرئة المقدم عمر نزار من التهم الموجهة اليه بملف الموصل، وترك محاسبة منفذي مجزرة جبلة، وإصدار رئيس الجمهورية “عفوًا خاصًا” عن نجل محافظ النجف السابق جواد لؤي جواد المتهم بتجارة المخدرات وإلغائه بعد هروب الأخير خارج العراق، إلى جانب الأحكام المخففة -المضحكة المبكية- بحق محافظ نينوى السابق ووزير الكهرباء الأسبق، وتبرير القضاء ايقاف تنفيذ الحكم بحق المُدانين بأنهم لم يسبق الحكم عليهم عن جريمة أخرى وأن الظروف الجرمية وظروف المدانين بماضيهم تبعث على الاعتقاد بأنهم لن يعودوا لارتكاب جريمة ثانية لذا قررت المحكمة إيقاف تنفيذ الأحكام، وإلزام المحكوم عليهم بـ”التعهد بحسن السلوك” خلال مدة إيقاف التنفيذ.
تركت البلد وما يزالون يداهمون منزلي
من نجا من القتل بات يواجه تهديدات متزايدة ضده ما تسبب بخيبة أمل وخوف الكثير من المتظاهرين والنشطاء والصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان، وأجبرهم على النزوح إو اللجوء إلى المنفى الذي اختاروه لأنفسهم هربًا من الموت. وقال أحد المصورين الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته خوفا على سلامة عائلته في بغداد جاؤوا إلى والدي قبل أسبوعين وقالوا له إن اسمي موجود على قائمتهم. وقال: تركت العراق وتركت عملي وأصدقائي وعائلتي. لكنهم ما زالوا يأتون إلى منزلي بحثًا عني.
وتحدث عدد من النشطاء لمندوبي قسم حقوق الإنسان أنهم الآن يفكرون مليًا قبل انتقاد الميليشيات علنًا. وغادر الكثيرون منهم وسائل التواصل الاجتماعي. ويبقى الآخرون في العراق وهم ينتقلون من مكان إلى آخر. الأمر الذي يؤكد على أن وضع حقوق الإنسان في العراق مروع بشكل علني وفاضح.
ومما يزيد الداء علة في العراق هو أن لدى مليشيات الحشد الموالية لإيران وجود في جميع أنحاء الدولة. وممثلو تلك الميليشيات هم أعضاء في قوات الأمن الحكومية الرسمية، ومنهم مشرعون وأعضاء في مجلس الوزراء وموظفون مدنيون كبار ورجال أعمال ذوو نفوذ.
اعتقال مرتكبي الجرائم يعقبه إطلاق سراح صامت
بعد مقتل الناشط إيهاب وزني، أصر الكاظمي على أن حكومته تحرز تقدما. واستشهد باعتقالات في مدينة البصرة بعد مقتل صحفي آخر هو أحمد عبد الصمد، وزعم أن العشرات من رجال المليشيات رهن الاعتقال. لكن المراقبين يقولون إن الاعتقالات البارزة أعقبها في معظم الأحيان عمليات إطلاق سراح هادئة، ولم يخضع أي من هؤلاء المعتقلين للمقاضاة.
وبعد اغتيال الصحفي والمستشار الحكومي هشام الهاشمي، لم يؤد ذلك إلى أي اعتقالات. وقال مسؤول حكومي، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته: إن داعميهم موجودون في كل مكان في الدولة. ولا يمكننا التحرك ضدهم.
وجاءت محاولات كبح جماح جماعة كتائب حزب الله المدعومة من إيران بنتائج عكسية في وقت مبكر من ولاية الكاظمي عندما دفع اعتقال 14 من رجال الميليشيات المتهمين بشن هجمات صاروخية على أهداف أمريكية المقاتلين لاقتحام المنطقة الخضراء في بغداد.
مجموعة أخرى متهمة باستهداف المتظاهرين والناشطين، سرايا السلام، الجناح العسكري لتيار يقوده مقتدى الصدر. ويقول مسؤولون غربيون إن الكاظمي قد يتحالف مع التيار في محاولة لتعظيم فرصه في إعادة انتخابه.
نحو ٨ ملايين قطعة سلاح مرخص في العراق، وغير مرخص أكثر من ذلك بكثير
إن ضعف الأجهزة الأمنية الممنهج يسير جنبًا إلى جنب مع ترهيب المجتمع من قبل القبائل والأحزاب السياسية. المتحكمة بالمشهد العراقي، ويرى مؤيدو الاحتجاجات المعارضة للحكومة والمتعاطفون معها، التي تجددت عام 2019، أن قوات الأمن متهمة بالتستر على الجناة في كل الأحوال؛ إذ أن القتلة معروفون وتم القبض على عدد منهم، ولكن يُسمح لهم بالإفراج عنهم بسبب العلاقات السياسية، لا سيما مع الجارة إيران.
وبعد نحو عقدين من الحرب والصراع الطائفي، لا يعاني العراق من نقص في الأسلحة النارية المتداولة. ووفقًا لمسح الأسلحة الصغيرة، أحصت البلاد 7.8 مليون قطعة سلاح ناري مسجلة لعدد سكان يبلغ 39 مليون نسمة، 40٪ منهم دون سن 14 عامًا، وتشير التقديرات إلى أن قطع السلاح غير المرخص أكثر من ذلك بكثير.
الحكومة تتذرع بالضعف لاستمرار إفلات المسؤولين من العقاب وتغييب الديموقراطية
أدى تجدد الاحتجاجات الشعبية إلى مقتل مئات المتظاهرين. وتم تشكيل حكومة جديدة، لكن العديد من المظالم لا تزال دون معالجة. وما تزال الحكومة تتجاهل تمامًا الأفعال والبيانات والتحذيرات والمناشدات التي أصدرتها جهات حقوقية محلية ودولية لمعالجة المخاوف المتعلقة بمحاسبة منتهكي القانون والمجرمين. كما لا يبدو أنها مستعدة لتغيير مسار عملها أو حتى محاولة وضع حد لدوامة الجرائم والفساد بأي وسيلة. الشيء الوحيد الذي يبدو أن الحكومة في العراق بارعة في إلقاء اللوم على قوى متداخلة “غير معروفة” والتذمر من ضعف هيكلها.
والكثيرون حول العالم، بما في ذلك الأمم المتحدة، يدعمون النظام السياسي الحالي ويفشلون في الاعتراف بأن النظام القائم في العراق لا يسمح بظهور الأصوات خارج القوة المهيمنة والطائفية. تسعة عشر عاما من الفشل والفساد مع خمس جولات انتخابية (2005، 2010، 2014، 2018، 2021) تم فيها مصادرة إرادة الشعب العراقي بطرق مختلفة شملت التزوير والتسويات السياسية ولي أعناق النصوص القانونية. وعلى الرغم من المقاطعة الشعبية غير المسبوقة للانتخابات الأخيرة، لا يزال العالم يعيش في وهم ما يسمى بمشروع “إعادة بناء الدولة”. ومن المفارقات أن الأحزاب السياسية المختلفة ومرشحيها تخبر العراقيين الآن بصراحة أن هذا مشروع فاشل وضعيف، لكنه على الأقل أفضل من لا شيء.
علاوة على ذلك، إن الانتخابات في العراق لم تعد مسألة مشاركة أو مقاطعة. لقد ساهم كل المسؤولين العراقيين، السابقون والحاليون دون استثناء، في فشل الإدارة السياسية والاقتصادية والأمنية للبلاد، وفي غياب مشروع وطني حقيقي لإنقاذ مستقبل العراق، وإن كسب ثقة الناس أمر مستحيل على أي شخص مشارك في العملية السياسية الحالية. ويقترب النظام السياسي الحالي في العراق من إكمال عقدين. ولكن لم تكن أي من الحكومات المتعاقبة جادة في تحميل الجناة والمسؤولين الفاسدين مسؤولية جرائمهم وسرقة وإهدار مليارات الدولارات من المال العام، ولم تتخذ أي إجراءات ملموسة لتحقيق العدالة لمئات الآلاف من الأرواح التي فقدت. لقد أتيحت لهذا النظام العديد من الفرص للإصلاح من الداخل وتحقيق ديمقراطية حقيقية، لكنه لا يزال يخذل الشعب العراقي مرارًا وتكرارًا.
وفي ختام هذا التقرير، يجدد قسم حقوق الإنسان دعوته إلى المساءلة عن الانتهاكات ضد المتظاهرين والنشطاء وإلى وضع حد للأسلحة المنفلتة، ولاسيما في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها العراق من جراء استمرار الصراعات السياسية بين شركاء العملية السياسية، ويؤكد القسم على وجوب إجراء تغييرات جذرية وتأسيسية من أجل تحقيق تغييرات ملموسة في المشهد السياسي الحالي. وأن الخطوة الأولى لتحقيق كل هذه التغييرات الضرورية هي وضع حد للإفلات من العقاب. وإذا تمكن العراقيون من تطبيق حكم القانون بشكل فعلي وحاسم مع محاسبة المسؤولين عن الجرائم والفساد، فيمكن حينذاك الاقتراب من إنشاء فصل جديد يمكن فيه للعراقيين التمتع بدولة مستقلة سياسيًا خالية من التأثيرات الخارجية لتهديدات الميليشيات، والسيطرة الطائفية المقيتة.